كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فكربت لهذا واضطربت، ورجعت إلى البيت محمومة يكاد يقتلها الأسى، ويفرى كبدها الألم! ثم استأذنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لتمرّض عند أبويها.. فأذن لها!!.. وكان ذلك مما ضاعف في بلوتها، لأنها ما استأذنت إلا لترى ما عند النبىّ لها.. فلما أذن لها عرفت ما هناك! ثم كان حديث عاصف ثائر، كادت تزلزل به أركان هذا البيت الكريم، بيت الصدّيق رضي اللّه عنه.
ولا نحسب أن أمرا عرض لأبى بكر، منذ صحب الرسول إلى هذا اليوم، كان أشدّ وقعا عليه، وابتلاء لصبره، وإيمانه، وإيثاره لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذا الأمر، الذي هيأ نفسه فيه لتقديم ابنته، وشرفه، على مذبح التضحية والفداء، في سبيل اللّه، ومن أجل رسول اللّه.
إنه- رضوان اللّه عليه- لم ينظر إلى نفسه، ولا إلى ابنته، وإنما نظر إلى رسول اللّه، وما أصابه في نفسه من هذا الأمر.. وإنه ليودّ مخلصا أن لو نزل طير من السماء، فاختطف ابنته، أو انشقت الأرض فابتلعتها، إذ كانت- في نظره يومئذ- هي الشوكة التي شاك بها المشركون والمنافقون رسول اللّه.
وإنه لا شيء أبغض إلى الصديق- رضوان اللّه عليه- من شيء يجىء إلى رسول اللّه منه ما يسوؤه، ولو كانت نفسه التي بين جنبيه، أو كانت فلذة كبده.
عائشة، رضوان اللّه عليها! إن الصدّيق- رضوان اللّه عليه- لم يكن ينظر إلى تلك الفرية إلا من حيث ما أصاب الرسول منها من أذى.
وسواء أصحت عنده تلك التهمة أو لم تصح.. فإنها آذت النبيّ.. والصدّيق لا يهمه في الدنيا شىء، إلا أن يرى النبىّ معافى من كل ضرّ، بعيدا عن كل أذى.. أما ما وراء ذلك- وإن عظم- فهو هين، يمكن أن تتحمله النفس وتصبر عليه.
ومن هنا ندرك، ما كان يعالجه الصدّيق من هموم، وما يعاينه من آلام!.
فهو- كمؤمن من المؤمنين، وأكثرهم حملا لأعباء الإسلام- قد أخذ بنصيبه الأوفى من تلك التهمة.
ثم هو كأكثر المؤمنين حبّا لرسول اللّه، وتعلقا به، وإيثارا له.. قد ذهب بالنصيب الأوفر منها.
ثم هو كأب لأم المؤمنين، وكسيد من سادات القوم، يحرص على شرفه- قد أخذ نصيبه كاملا منها.
ومع هذا كله، ومع تلك الأعباء الثقال التي حملها- فإنه- رضوان اللّه عليه لم ير النبىّ إلا ما يحبّ، ولم يسمعه إلا ما يرضيه.. وإنه لو استطاع أن يحمل عن النبىّ ما حمل من هذا الأمر لفعل.. ولكنه كان أبدا مع قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.
ومن هنا أيضا ندرك بعض السرّ في أن كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى، ومن فضله العظيم على أبى بكر وإحسانه العميم إليه.. أن تتنزل رحمات اللّه على هذا البيت الكريم، الذي تعرض لهذه العاصفة الهوجاء المجنونة، وأن يطلع منه هذا النور السماوىّ الوهاج، الذي يفضح دعاة الإفك، ويخزيهم، ويسمهم بسمات الذلة، ويقيمهم في قفص الاتهام إلى يوم الدين، حيث ينظر إليهم نظرة اتهام، كلّ قارئ لكتاب اللّه، مرتل لتلك الآيات البينات، التي نزل بها الروح الأمين على الرسول الكريم، في بيت الصدّيق، وعلى مشهد منه، ومن أهله جميعا.
ففى زورة للرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لآل أبى بكر، وهم في هذه المحنة القاسية، وفى أثناء حديث مرير، حرج، مزعج، بين رسول اللّه، وبين أم المؤمنين- تهبّ على هذا الجمع الكريم ريح طيبة، كأطيب ما يكون الطيب، ويخلص إلى نفوس الجمع منها، أنفاس عطرة، تشيع السكينة، والأمن، والرضا، فيجد لها كل من ضمه هذا المجلس الطيّب في رحاب هذا البيت الكريم- نغما علويا، يصدح بألحان مسعدة، تزفّ بين يديها آيات اللّه محمولة على أجنحة نورانية، ترف حول رسول اللّه، وتوشك أن تشتمل عليه.
ويمسك القوم عن الحديث بعد أن اتصل رسول السماء بالنبيّ، وتسكن الجوارح، وتبهر الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول اللّه، وما غشيه من هذا النور المتدفق من السماء.
ويأخذ الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما يأخذه من الوحى، والقلوب واجفة، والأبصار زائغة. والنفوس قلقة.. لا يدرى أحد ما جاءت به السماء، وما يكون لها من حديث عن هذا الحدث الصاعق! وإن كانت السيدة عائشة على إيمان وثيق بربّها، وعلى ثقة مطلقة بطهرها، وبراءتها- فإنها ما كانت تتوقع- كما كانت تحدث عن نفسها فيما بعد- أن ينزل في شأنها قرآن، وأن تتنزل من السماء آيات تزكّيها، وتدمغ الباغين عليها!.
فلما انفصل الوحى عن رسول اللّه، وسرّى عنه- نطق وجهه الكريم بشرا، ونورا، قبل أن ينطق لسانه بما نزل على قلبه من كلمات ربه.. وعرفت السيدة عائشة، ومن معها أن قرآنا قد نزل ببراءتها.. وما هي إلا لحظة- مرت كأنها دهر- حتى أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عائشة قائلا: «أبشرى يا عائشة. أما اللّه عز وجل فقد برّأك»!! فقالت: بحمد اللّه لا بحمدك!
فقالت لها أمها: قومى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.. فقالت: واللّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللّه عز وجل الذي أنزل براءتي!! إنها ثورة الحرة على شرفها، وعلى شرف النبىّ الذي شرفت بزواجها منه، وعلى شرف بيت النبوّة الذي ضمّت إليه، وعلى شرف بيت الصديق الذي نبتت منه!!.
وتهدأ العاصفة، وتخمد نار الفتنة، ويخرج أبو بكر وآله من هذه المحنة بأعظم مغنم، لم يكن لأحد من المؤمنين أن يشاركه فيه.. فقد نزل الوحى في بيت أبى بكر، بستّ عشرة آية من القرآن الكريم، هي في شأن أبى بكر، وبنت أبى بكر! لقد كان المسلمون يتعبدون فيما يتعبدون به من آيات القرآن الكريم، بقوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40) وإنهم منذ الآن ليتعبدون إلى آخر هذه الحياة الدنيا، بتلك الآيات الست عشرة أيضا.. وكأنّ ذلك استغفار متصل من المؤمنين جميعا لأبى بكر، وبنت أبى بكر، من هذا المنكر الذي جاءت به عصبة من المؤمنين!.
وانظر إلى تدبير اللّه سبحانه، وإلى غيوث رحمته، وسوابغ فضله على المخلصين من عباده.
لقد كانت هجرة النبىّ، وإخراجه من بلده، والمسجد الحرام، غاية ما وصل إليه المشركون من إيذاء للنبىّ، في مشاعره.
وكان الغار على طريق الهجرة، الغاية القصوى لما كان يمكن أن يبلغه المشركون من النبىّ وصاحبه الصديق، لو أنهم ظفروا بهما، وقد كانوا على بضع خطوات منهما!! وإنه ليس لهذه الآلام النفسية القاسية من شفاء إلا في آيات اللّه، التي يقول سبحانه وتعالى فيها: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
(82: الإسراء) وقد نزل ما فيه الشفاء والرحمة: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} فأخذ أو بكر نصيبه من هذا من الشفاء والرحمة.
وفى حديث الإفك، كان المنافقون ومرضى القلوب من المسلمين، يمثّلون دور المشركين في مكة.. لقد آذوا النبىّ في مشاعره، وفى الدعوة التي يقوم عليها، إذ أن هذا الحديث لو جرى إلى غايته، ولم تعالجه السماء بهذا الدواء الرباني، لكان معولا يهدم في صرح الإسلام، الذي لم يتم بناؤه بعد، ولكان في يد الذين يكيدون لهذا الدين حجة قوية عليه، في عدوان أصحاب النبىّ على حرماته ومقدساته، لا يخافون عقاب اللّه، ولا يوقّرون الذي يدعوهم إلى اللّه.
ولكان لقائل أن يقول: إن أصحاب محمد هؤلاء، لو وجدوا في هذا الدين، أو في الداعية إلى هذا الدين ما يبعث في قلوبهم خشية، أو توقيرا لما جرؤ أحدهم على فعل هذا الذي يجرى به هذا الحديث الأثيم! نعم.. لقد كان النبىّ، ومعه صاحبه أبو بكر، ومعه المؤمنون الصادقون، يجدون من وقع ألسنة الذين جاءوا بهذا الإفك، ما كانوا يجدونه وهم في مكة على يد المشركين، وما يرمونهم به من ضرّ وأذى.
وكان فراق النبىّ للسيدة عائشة، وقبول انتقالها إلى بيت أبويها لتمرّض هناك وتستشفى مما ألمّ بها، أشبه بفراقه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لبلده، وأهله، إلى حيث يطلب السلامة والعافية، في مهاجره الذي هاجر إليه.
ثم كان بيت الصديق، الذي أوت إليه أم المؤمنين أشبه بالغار.. حيث كثر الطلب للحديث عنها، وعلت الأصوات الخافتة للقالة فيها، بعد أن خرجت من بيت النبىّ، إلى بيت أبويها.
ثم لم يكن لهذا البلاء العظيم إلا ما ينزل من رحمة السماء، حتى يردّ للنفوس الطاهرة اعتبارها، ويأخذ لها بحقها، ويجزيها الجزاء العظيم على صبرها واحتمالها.. فنزلت تلك الآيات الست عشرة، التي رفعت قدرا رفعه اللّه وأراد المنافقون ومن في قلوبهم مرض أن ينالوا منه.. فكان أن زاده اللّه رفعة إلى رفعة، وشرفا إلى شرف، وذكرا باقيا خالدا على الدهر.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.. وأي خير أعظم من هذا الخير؟ وأي شيء في الدنيا كلها يعدله، أو يعدل بعضا منه؟
قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ}.
لولا: حرف تحضيض، بمعنى هلّا.. فهو استفهام يراد به الحثّ على إتيان الأمر المستفهم عنه.
والمعنى: لقد كان من الخير لكم أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات، إذ سمعتم هذا المنكر- أن تنكروه، وتردوه على أهله الذين جاءوا به.. حيث أن التي ترمى به، امرأة مؤمنة منكم، بل هي أم المؤمنين، وزوج الرسول الكريم.
وكل صفة من تلك الصفات هي وحدها أمان لها من الزلل والعثار، ووازع قوى يزعها عن الاعتداء على حدود اللّه، فكيف إذا اجتمعت لها هذه الصفات جميعها؟.
وفى قوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أمور.. منها:
أولا: الإشارة إلى تلك الرابطة القوية الوثيقة، التي تربط المؤمنين جميعا بعضهم ببعض، بحيث يكون ما يعرض لأحدهم من عارض يمسّه، في نفسه، أو دينه، أو مقامه في مجتمعه- هو مصاب يصاب به المجتمع المؤمن كلّه.. فالمؤمنون كما وصفهم القرآن الكريم {إِخْوَةٌ} كما يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.. ثم هم كما وصفهم الرسول الكريم جسد بحكم هذا الرباط الأخوة الذي يربطهم، ويشد بعضهم إلى بعض.. يقول الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».
وثانيا: الإشارة إلى أن المؤمن حقّا، إنما ينظر إلى المؤمنين من خلال نفسه، فإذا كان على السلامة في دينه، والاستقامة في طريقه، رأى المؤمنين جميعا مثله، على تلك الصفة.. وهذا من شأنه أن يلفت المؤمن إلى نفسه أولا.. فإذا سمع عن مؤمن ما ينقص من إيمانه، أو ما يشير إلى انحراف في سلوكه- ثم استقبل هذا الذي سمعه، ولم يضق صدره به، ولم تألم نفسه له- كان عليه أن يتهم إيمانه أولا، لأنّه قبل أن يدخل عليه هذا المنكر، الذي دخل على المؤمنين جميعا، وأضيف إليهم، بحكم الوحدة القائمة بينهم.. ثم إذا هو هشّ لهذا الذي سمعه، أو طار به فرحا- فليعلم أنه ليس من الإيمان إلا على حرف، وأنه موشك أن ينفصل عن الإيمان، ويقطع صلته بالمؤمنين.. ثم إذا هو لم يقف عند الحدّ، وأطلق لسانه بهذا المنكر الذي سمعه، وعمل على إذاعته، ونشره في الناس- فليعلم أنه- مادام على تلك الحال- فهو ليس من الإيمان في شىء، وأنه قائم على منكر، لا يجتمع هو والإيمان، في كيان إنسان.
وثالثا: الإشارة إلى أن المؤمن من شأنه أن يكون مبرّا من التهم، بعيدا عن مواطن الشبهات.. وأنه أبدا على هذه البراءة حتى تثبت إدانته.. أما قبل هذا، فإن كلّ كلمة سوء تقال فيه، هي إثم كبير، وبهتان عظيم.. يستحق قائل السوء فيه أن يساق إلى موقف الاتهام، وأن يطالب بالدليل القاطع على صدق ما يقول، وإلا فالحدّ في ظهره.. تأديبا له، وقصاصا لحرمة هذا المؤمن، أو المؤمنة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} (البقرة: 194).
قوله تعالى: {لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ}.